في التعليم: الفاقد والمفقود وأوان الصحو
بقلم: تحسين يقين
- هل من يوسف ليفتينا؟
- .....................
ليس حلما، لكنه واقع، نأخذ من الكتب ما له علاقة بالعام القادم، كي يتيسر البناء، كما ينبغي للتدرج التعلمي أن يكون. خلال ذلك يمكن الاكتفاء ببعض المباحث، وتوجيه المعلمين للمباحث الأساسية، حيث يدعم معلمو الاجتماعيات معلمي اللغة العربية، ويدعم معلمو العلوم معلمي الرياضيات..؛ فكل معلم لو ترك له الأمر سيقوم بما ينبغي تعليمه في الفترة المتبقية لطلبته، لتسهيل الانتقال الى المستوى الأعلى. ولا تحتاج هذه العملية سوى لخمسة أسابيع، بحيث تكون الاختبارات مدمجة بالتعليم. والأهم هو البدء بتعليم جاد بدءا بالعام الدراسي 23/24؛ فالتعافي يأخذ فترة زمنية حسب الحاجة. تماما كما صحة النفس والجسد. تعليم جاد لا يقف عند حدود الفاقد التعليمي لخمسين يوما، بل لسنوات مضت؛ فمما يقرب من عشرين عاما والتعليم الفلسطيني ينحرف عن هدف الأساسي. (لعلنا نفرد مقالة خاصة تكون شهادة على ما كان ويكون، بسبب زهد القيادة السياسية والمجتمع بالتعليم).
- "قضي الأمر الذي فيه تستفيان".
- لعلك لم تستكمل رؤياك؟
- ......................
- النظر للجزء؟ للكل. ونحن ننظر لخطوة أمامنا، يمكننا النظر خطوات، ومكان خطوات أخرى لنا ومن سيخطو معنا وبعدنا.
تعويض الطلبة عن الأيام التي غاب فيها الطلبة والمعلمون عن المدارس، يقودنا للتفكير العميق والمسؤول، والأهم التفكير المستقبلي؛ فيكفينا التقوقع في الماضي، فمنذ عقود ظهرت الدراسات المستقبلية، بل وأصبحت تخصصا في الأكاديميات، ومثل هذه الدراسات هي من تجنبنا الخلل والتوتر والضبابية وتكرار الفعل الذي ينتج منتوجا مكررا.
نثق بكل جهد يسعى إلى تقوية بقاء الطلبة في المدرسة، حتى ينتقلوا من مستوى الى آخر بسلاسة وييسر، فجزء من المعلومات مرتبطة، بل يبنى اللاحق على السابق، فماذا نحن فاعلون!
كل وله ما يقوله عن ما درسناه في المدارس والمعاهد والجامعات، لذلك فإن محاججتي هنا مرتبطة بما لدى كل واحد منا، وخصوصا بطلبة اليوم؛ أفلم نفكر أطفالا وكبارا مرة بل مرات في ما يتم تقديمه لنا من "وجبات" تعليمية جاهزة ومعلبة؟
بهدوء، اجتهد الأقدمون، منذ إيجاد ما يسمى بالتعليم العام، بأن وضع معلومات لكل مرحلة، من خلال مباحث أدبية وعلمية، تحقق الحد الأدنى المقبول لاستئناف التعليم من جهة، وللاطمئنان بأن مخرجات التعليم تمكن الطلبة من القيام بمهارات العمل المطلوب، لذلك جاءت تلك المباحث، وهي متشابهة نوعا ما بين الأمم، ولكن بخصوصيات ثقافية معينة.
ومن يومها، والمؤلفون، يطورون، بما يضيفون ويحذفون ويعدلون ويدمجون، وصولا الى اليوم الذي تساءل فيه كثيرون عن جدوى ما يقدم من تعليم عام، خاصة بما له من تخصصات، فأوجد البعض حلولا لها علاقة بمسارات الطلبة داخل التعليم الثانوي والمهني وما بعده في التعليم العالي (وأظن أن خطة وزير التربية عن نظام التوجيهي الجديد يأتي في هذا السياق).
حين كنا في المراحل الأولى من تأليف كتب التعليم العام، أذكر أنني قلت للدكتور صلاح ياسين رئيس مركز المناهج الأسبق، وهو الرئيس المؤسس له، بعد دكتور إبراهيم أبو لغد رحمه الله، وقد كنا نتحدث عن كتابي الفيزياء والرياضيات، ومعلوم ما لهما من تأثير ليس هذا مكان شرحه، قلت: أنصح بوضع 70% من المعلومات في الكتب بما تكون مفهومة لمعظم طلبة الفرع العلمي، لأن ذلك سيعني أن فهم الطلبة سيكون أفضل من وضع 100% معلومات يفهمها النصف أو أكثر قليلا. والحق أنني في ذلك الوقت كنت أميل لتقليل الكتب المدرسية، وتقليل الوحدات، وتقليل الدروس فيها، بل وتقليل النصوص الى الحد الممكن تقبله، بما يجعلنا مطمئنين الى إمكانية البناء عليه في التعليم العالي، للطلبة الذين يريدون الالتحاق بتخصصات علمية ذات علاقة.
أثار مفهوم less is more الذي سمعته من الصديق والزميل التربوي دكتور إيهاب شكري، ما كنت أفكر به وآخرون حول (الحشو التربوي) واغتراب الطلبة، ونفورهم من المدرسة، فعدت أكتب مرات أخرى حول الموضوع، هنا وهناك.
وهنا أود أن أسجل شيئا من المدرسة الفلسطينية والجامعة المصرية؛ ففي المدارس التي تعلمنا فيها، أتذكر أن المعلمين من أول العام، كونهم خبراء حقيقيين، كانوا يركزون على الوحدات المهمة ذات الارتباط، والتي سيحدث للطلبة ثغرات مستقبلية إن لم (يهضموها) جيدا. كان المعلم الفاضل منهم يقول لنا، سنعود الى هذا الدرس فيما بعد، وفعلا فإنه عند اطمئنانه على الأهم في الأولويات، فقد كان يعود الى تلك الدروس. أما في مصر المحروسة، فعلى مدار السنوات الأربع، فإننا أتذكر بجزيل المحبة أساتذتنا، الذين كانوا يعرضوننا لمعظم فصول الكتب، لكنهم، وهم الخبراء، كانوا يركزون على أهم الخطوط العريضة في تاريخ الأدب والنقد والبلاغة والنحو والصرف، وفق تسلسل منظم، من باب أن المهم هو فهم المجمل، وهو الاستراتيجي، أما التفاصيل فيمكن دوما العودة لها، فإن نسيناها فلن ننسى البنية العامة لكل مبحث، وهذا ما ظل معنا بعد 3 عقود من التخرج، ومع آخرين بعد ضعف هذه الفترة.
لقد تطورت مناهج التعليم عالميا (وعربيا بشكل متفاوت) بحيث راحت تراعي أهمية التركيز على المفاهيم والمعلومات الأساسية، وربطها بالعصر من جهة، وبسياق تعلم الطلبة وواقعهم من جهة أخرى (كما تعلمنا من د. عمر الشيخ).
وحين، أطلت التكنولوجيا والتعلم الالكتروني، نشط الحديث عن اتجاهات التعليم، لكن بعد الاطلاع على هذا الأمر، وجدت أن وضع الطالب الفلسطيني والعربي على طريق الحداثة التقنية، يقتضي أولا تطوير التعليم التقليدي (وسيكون لهذا المفهوم مقال خاص مطول).
قبل 18 عاما أو أكثر، دفع لي دكتور صلاح ياسين، مديرنا وقتها في مركز المناهج، بكتاب تسريع التعليم في الولايات المتحدة، فالتهمته لأفهم، فوجدت أنه معدّ للطلبة هناك، ولكن الفكرة هي في تسريع انتقال الطلبة.
بعد ذلك (ب 15 عاما ربما)، تداول المجتمع المعرفي التربوي في وزارة التربية والجامعات المفهوم نفسه، حيث أثار "قانون تسريع التعليم" الذي أقرته وزارة التربية و التعليم العالي في فلسطين جملة من الأفكار، لكنه لم يمض الى طريقه.
وتسريع التعليم هو مصطلح جديد بعض الشيء، يقصد به كما فهمت، أنه يمكن للطالب ذو التحصيل المتميز أن ينتقل من مستوى مثلا صف رابع الى صف سادس، في حال وجود القدرة. وللعلم، فللذاكرة الفلسطينية وقت الحروب أمثلة خاصة عن التسريع، خصوصا في ظل فقدان الوثائق، (تحدثت عن ذلك الفنانة تمام الأكحل في مقابلة مع الجزيرة منذ سنوات، في سياق توثيق النكبة)، وقريب لنا أيضا، حين تم اختباره فتم ترفيعه صفين دفعة واحدة. يعني أن الأمر ليس اختراعا أمريكيا ولا غربيا.
حين عدت قبل أيام لما كنت قد تابعته من ردود فعل عن التسريع الفلسطيني الذي تم اقتراحه، وجدت أن الحديث يتعلق بالطلبة المتفوقين، أي نخبة الطلبة؛ فحيثيات القرار، "إنه واستناداً لأحكام القانون الأساسي المعدل لسنة (2003)، وتعديلاته، ولا سيما المادة (71) منه، إضافة إلى أحكام قانون التربية والتعليم العام رقم (
لسنة (2017)، ولا سيما المادة (13) في البند الثاني الذي ينص على ما يلي: "يتم تسريع التعليم واختصار عدد السنوات الدراسية لحالات معينة من الطلبة ممن يظهرون قدرات عقلية تفوق أعمارهم الزمنية، وتؤهلهم للانتقال من صف لصف أعلى أو انتقال لمرحلة تعليمية أخرى، بقرار من الوزير". والبند الثالث ونصه ما يلي: "يصدر الوزير التعليمات اللازمة لتحديد معايير وضوابط عملية تسريع التعليم"؛ وبناء على ما تقدم، فقد صادق الوزير السابق لوزارة التربية والتعليم العالي، الدكتور صبري صيدي، على هذا القرار في مرحلته الأولى، موضحاً أن تعليمات هذا القرار تمنح الطالب الذي استوفى شروط التسريع كاملة الحق في الانتقال إلى صف دراسي أعلى بصف واحد، وأن التسريع في هذه المرحلة يشمل النقل من الصف الرابع إلى السادس، ومن السابع إلى التاسع فقط، وذلك بموافقة الطالب وولي أمره، وبترشيح من معلميه، وبعد مروره بجملة من الشروط والإجراءات اللازمة للتسريع"، وتم الحديث وقتها أن وزارة التربية والتعليم ستصدر "قرارات فيما يتعلق باللجان التي سيتم تشكيلها للإشراف على تنفيذ تلك التعليمات، واعتماد النماذج والوثائق اللازمة لتطبيقها".
لقد تمحورت الآراء المؤيدة والمعارضة، من هذه جزئية: التفوق! لكنني، وقد كتبت مرات عن "مجتمع النخبة لا نخبة المجتمع، وعن مجتمع الطلبة النخبة لا نخبة الطلبة)؛ فما نطمح استراتيجيا له، وجود مجتمع النخبة لا نخبة المجتمع.
الظن أن ما يحدث من اجتهادات رسمية وغيرها إنما تشتتنا عن الفعل التربوي الحقيقي الذي يكون رافعة إنسانية للطلبة، والدليل وصولنا الى جعل التعليم أحد الاهتمامات الحكومية، وليس الاهتمام الرئيس، ويمكن النظر الى الخطط المتلاحقة، بل يمكن قياس هذا الأثر الآن من خلال تقييم خبرات الطلبة وأدائهم كتابة وقراءة وعدا (حساب)..
لسنا بحاجة إلا للتعليم الجاد وكفى. فليس التسريع أولوية، كذلك فإنه ليس البحث عن أساليب تعويض الفاقد التربوي هو المهم استراتيجيا، بل ما نحتاجه هو إصلاح جذري للتعليم التقليدي، بالاتجاه نحو التعليم teaching، وليكن التعلم الحيوي ضمن ذلك حتى نطمئن على امتلاك الطلبة للكفايات التعليمية.
"كبرها بتكبر صغرها بتصغر"، كلام كثير لا يفيد فعلا، بقدر فعل ذكي، بالنظر الآن (في ظل بحث الفاقد التعليمي بسبب الإضراب)، والحق أن التربويين الحقيقيين، حين بحثوا حال مواد التعليم خلال جائحة الكورونا، قد انتبهوا الى أهمية المعلومات الأساسية.
وعليه، فإن الطريق واضح، من خلال خطوتين:
- الانتباه لكل ما يتم وضعه في الكتب المدرسية، بعيدا عن الحشو.
- تنفيذ رؤية وزارة التربية فيما يخص نظام الثانوية العامة.
بعد ذلك، وخلال ذلك، وقبل ذلك إن كان ممكنا، فقد آن الأوان لعلمنة التعليم باتجاه حداثوي لنلحق بركب العالم، بالانطلاق من خصوصياتنا لا بالالتفاف عليها، من باب العصرنة المرتبطة بتعليمات الأوصياء على فلسطين. نحتاج الى العلمنة التي تعني تخفيف الثقل الكلاسيكي السلفي المتقادم، باتجاه تعليم ناقد يكون للحياة ولأجلها. وهو أصلا التعليم التحرري، الذي يقود للتغيير. فهل سينتبه المجتمع الفلسطيني، السياسي والمعرفي إلى أهمية النهوض بالتعليم فعلا كهدف وحق للطلبة، وكوسيلة بقاء في المدرسة والأرض وتحرر حقيقي؟
النصيحة والضرورة: لا يجب ترك التربية والتعليم للتربويين فقط، ولا يجب طبعا الاستمرار بهذا النهج القائم الآن، الذي لن يتغير بتغيير وزير، لأن الاستمرار بإعادة إنتاج لن يقودنا الى التقدم الى الأمام. إنها دعوة لضخ دماء جديدة تمتلك القدرات فعلا، وأزعم أن بيننا هنا في المؤسسات التربوية من هو وهي قادر وقادرة، فهل من مايسترو؟ وهل من وعي على المستوى السياسي؟ وهل هناك مساءلة جادة لا تنطلق من المصالح الفردية الضيقة؟
آن الأوان للتفاعل مع قضية مهمة، وجعلها أولوية، ومعا لتشجيع المستوى السياسي لتشكيل حكومة خلاص تربوي، قبل أن تكون استعادة عافية المدارس وبالتالي المجتمع صعبة.